فصل: تفسير الآيات رقم (148- 149)

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المديد في تفسير القرآن المجيد ***


تفسير الآية رقم ‏[‏134‏]‏

‏{‏مَنْ كَانَ يُرِيدُ ثَوَابَ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوَابُ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةِ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا ‏(‏134‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏من‏}‏‏:‏ شرطية، وجوابها محذوف؛ دل عليه الكلام، أي‏:‏ من كان يريد ثواب الدنيا فيلطلبه منه، فعند الله ثواب الدنيا والآخرة، أو من كان يريد ثواب الدنيا فلا يقتصر عليه خاصة، عند الله ثواب الدنيا والآخرة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏من كان يريد ثواب الدينا‏}‏ والتوسع فيها، فليطلبه منا؛ فعند الله ثواب الدارين، أو من كان يريد ثواب الدنيا، فليطلب مع ذلك ثوابَ الآخرة أيضًا، وليقل‏:‏ ‏{‏رَبَّنَا ءَاتِنَا في الدُّنْيَا حَسَنَةَ وَفي الأَخِرَةِ حَسَنَةً‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 201‏]‏؛ ‏{‏فعند الله ثواب الدنيا والآخرة‏}‏، فيعطيهما معًا لمن طلبهما، والثاني أنهض من الأول، وأكملُ منهما من أعرض عنهما وطلب مولاه، ‏{‏وكان الله سميعًا بصيرًا‏}‏، لا يخفى عليه مقاصد خلقه، فيعطي كُلاًّ على حسب قصده‏.‏

الإشارة‏:‏ المهم ثلاثة‏:‏ همة دنية تعلقت بالدنيا الدنية، وهمة متوسطة تعلقت بنعيم الآخرة، وهمة عاليه تعلقت بالكبير المتعال‏.‏ والله تعالى يرزق العبد على قدر همته، وبالهمم ترفع المقادير أو تسقط، فمن كانت همته دنية كان دَنيًا خسيسًا، ومن كانت همته متوسطة؛ كان قدره متوسطًا، رحل من كون إلى كون، كحمار الرحا، يسير، والذي ارتحل منه هو الذي عاد إليه، ومن كانت همته عالية كان عالي المقدار، كبير الشأن حاز الكونين بما فيهما، وزاد مشاهدة خالقهما، جعلنا الله منهم بمنِّه وكرمه‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏135‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاءَ لِلَّهِ وَلَوْ عَلَى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوَالِدَيْنِ وَالْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللَّهُ أَوْلَى بِهِمَا فَلَا تَتَّبِعُوا الْهَوَى أَنْ تَعْدِلُوا وَإِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا ‏(‏135‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏شهداء‏}‏‏:‏ خبر ثاني لكان، أو حال، ‏{‏فالله أولى‏}‏‏:‏ علة للجواب؛ أي‏:‏ إن يكن المشهود عليه غنيًا عليه فلا تمتنعوا من الشهادة عليه تعظيمًا له، وإن يكن فقيرًا فلا تمتنعوا من الشهادة عليه إشفاقًا عليه، فإن الله أولى بالغني والفقير منكم، والضمير في ‏{‏بهما‏}‏ راجع إلى ما دل عليه المذكور، وهو جنسًا الغني والفقير، لا إليه وإلا لوحّد؛ لأن «أو» لأحد الشيئين‏.‏ و‏{‏أن تعدلوا‏}‏‏:‏ مفعول من أجله، ومن قرأ‏:‏ تلوا بضم اللام فقد نقل ضم الواو إلى اللام وحذف الواوين، وقيل‏:‏ من الولاية‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط‏}‏ أي‏:‏ مجتهدين في إقامة العدل مواظبين على الحكم به، وكونوا ‏{‏شهداء لله بالحق‏}‏ تقيمون شهادتكم لوجه الله، وابتغاء مرضاته، بلا طمع أجر ولا عرض، وهذا إن تعينت عليه، ولم يكن في تحملها مشقة، وإلا أُبيح له أجر تعبه، فأدوا شهاداتكم ‏{‏ولو‏}‏ كانت ‏{‏على أنفسكم‏}‏ بأن تقروا بالحق الذي عليها، لأن الشهادة بيان الحق، سواء كان عليها أو على غيرها، ‏{‏أو‏}‏ كانت الشهادة على ‏{‏الوالدين والأقربين‏}‏، فلا تمنعكم الشفقة والتعظيم من إقامة الشهادة عليهما، وأحرى غيرهما من الأجانب، ‏{‏إن يكن‏}‏ المشهود عليه ‏{‏غنيًا أو فقيرًا‏}‏ فلا تميلوا عن الشهادة بالحق عليهما، تعظيمًا للغني أو شفقة للفقير، فأن ‏{‏الله أولى بهما‏}‏ وبالنظر لهما، فلو لم تكن الشهادة عليهما صلاحًا لهما ما شرعها، ‏{‏فلا تتبعوا الهوى‏}‏ فتميلوا مع الغني أو الفقير، فقد نهيتكم إرادة ‏{‏أن تعدلوا‏}‏ في أحكامكم، فتكونوا عدولاً، أو كراهية أو تعدلوا عن الحق أي‏:‏ تميلوا، ‏{‏وإن تلووا‏}‏ ألسنتكم عن شهادة الحق أو حكومة العدل ‏{‏أو تعرضوا‏}‏ عن أدائها فتكتموها ‏{‏فإن الله كان بما تعملون خبيرًا‏}‏، فيجازي الكاتم والمؤدي‏.‏

قال صلى الله عليه وسلم عند نزولها‏:‏ «مَن كانَ يؤمنُ بالله واليوم الآخر فليُقِم شهادتَه على من كانت، ومن كان يؤمن بالله واليوم الآخر، فلا يَجحَد حَقًا هو عليه، وليؤُده عَفوّا، ولا يلجئه إلى السُلطان وخصوُمتِه، ليقتطع بها حقه، وأيما رجل خَاصَمَ إليَّ فقضَيتُ له على أخِيِه بحقٍ ليس له عليه، فلا يأخُذُه، فإنَما أقَطَعُ له قطعةً مِنَ النَارِ»‏.‏

الإشارة‏:‏ قد أمر الحق تعالى عباده بإقامة العدل في الأمور كلها، ونهى عن مراقبة الخلق في الأشياء كلها، فيتأكد على المريد ألاَّ يراقب أحدًا من الخلق؛ وإنما يراقب الملك الحق، فيكون قويًا في الحق، يقيمه على نفسه وغيره، فلا تجتمع مراقة الحق مع مراقبة الخلق، من راقب الحق غاب عن الناس، ومن راقب الناس غاب عن الحق، وعاش مغمومًا من الخلق، ولله در القائل حيث قال‏:‏

مّن رَاقّبَ الناسَ ماتَ غمًّا *** وفازَ باللذات الجَسُور

وكان شيخ شيخنا رضي الله عنه يقول ‏(‏مراقبةُ الخلقِ عند أهل الظاهر شيءٌ كبير، وعدم المراقبة عند الباطن أمر كبير‏)‏‏.‏ فإقامة العدل على النفس؛ ألاَّ يتركها تميل إلى الرخص والتأويلات، وإقامته على الوالدين تذكيرهما بالله ودلالتهما على الله بلطف ولين، وإقامته على الأقربين بنصحهم وإرشادهم إلى ما فيه صلاحهم، كانوا أغنياء أو فقراء، وإقامته على الأجانب كذلك‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏136‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا آَمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلَى رَسُولِهِ وَالْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَمَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏136‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ مخاطبًا من أسلم من اليهود وهو عبدالله بن سَلاَم وأسَد وأسيد ابنا كَعبٍ، وثَعلبة بن قَيسٍ، وسلاَّم ابن أخت عبدالله بن سلام، وسلمة ابن أخية ويامين قالوا يا رسول الله، نؤمن بك وبكتابك وبموسى والتوراة وعُزَّير، ونكفُرُ بما سِوَاهُ من الكُتب‏؟‏ فقال النبي صلى الله عليه وسلم «آمِنُوا بالله ورسوله محمد صلى الله عليه وسلم وبكتابه القرآن، وبكل كتاب قبله» فَنزلت الآية‏.‏

فقال لهم جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يأ أيها الذين آمنوا‏}‏ بمحمد، بعد أن آمنوا بموسى؛ ‏{‏آمنوا بالله ورسوله والكتاب الذي نزَّل على رسوله‏}‏ القرآن ‏{‏والكتاب الذي أنزل من قبل‏}‏ أي‏:‏ جنس الكتاب، فتدخل الكتب المتقدمة كلها، ‏{‏ومن يكفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر‏}‏ أي‏:‏ ومن يكفر بشيء من ذلك ‏{‏فقد ضل ضلالاً بعيدًا‏}‏ أي‏:‏ أخطا خطًأ بعيدًا لا يكاد يعود إلى الطريق، فلما نزلت قالوا‏:‏ يا رسول الله؛ إن نؤمن بالجميع، ولا نفرق بين أحد منهم، كما فرقت اليهود والنصارى‏.‏

وقيل‏:‏ الخطاب للمنافقين، أي‏:‏ يا أيها الذين آمنوا بألسنتهم آمِنُوا بقلوبكم، كما آمنتم بألسنتكم، وقيل‏:‏ للمؤمنين، أي‏:‏ دوموا على إيمانكم، وأثبتوا عليه‏.‏

الإشارة‏:‏ أمر الحقّ جلّ جلاله، أهل الإيمان أن يجددوا إيمانهم، فيثبتوا على ما هو حاصل، ويسترشدوا إلى ما ليس بحاصل، فإن أنوار الإيمان تتزايد وتترادف على القلوب بحسب التصفية والنظر، وبقدر الطاعة والتقرب، فلا يزال العبد يتقرب إلى الله، وأنوار التوجه تتوارد عليه، حتى تشرق عليه أنوار المواجهة؛ وهي أنوار الشهود، فشروق الأنوار على قدر صفاء الأسرار، وورود الإمداد على حسب الاستعداد، فبقدر التفرغ من الأغيار ترد على القلوب المواهب والأسرار، وهذا كله لمن صحب العارفين وأخذ عنهم، وملّك زمام نفسه لهم، وإلا فحَسبُه الإيمان بالغيب، ولو عمل ما عمل، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏137- 139‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آَمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا ‏(‏137‏)‏ بَشِّرِ الْمُنَافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏138‏)‏ الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَيَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا ‏(‏139‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين آمنوا ثم كفروا‏}‏ ثم تكرر منهم الإيمان والكفر، ثم أصروا على الكفر وهم المنافقون، ‏{‏لم يكن الله ليغفر لهم‏}‏؛ لما سبق لهم من الشقاء، أو ‏{‏إن الذين آمنوا‏}‏ بموسى ‏{‏ثم كفروا‏}‏ بعبادة العجل ‏{‏ثم آمنوا‏}‏ حين تابوا ‏{‏ثم كفروا‏}‏ بعيسى ‏{‏ثم ازدادوا كفرًا‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم ن ‏{‏لم يكن الله ليغفر لهم‏}‏، وهم اليهود، والأول أظهر، لأن الكلام بعده في المنافقين، فقال تعالى في شأنهم‏:‏ ‏{‏لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم سبيلاً‏}‏ أي‏:‏ طريقاً توصلهم إلى الحق، إذ يُستبعد منهم أن يتوبوا، فإن قلوبهم أشربت الكفر، وبصائرهم عميت، لا ينفع علاجها، لا أنهم لو أخلصوا الإيمان لم ينفعهم، وقد يكون إضلالهم عقابًا لسوء أفعالهم‏.‏

ثم ذكر وعيدهم فقال‏:‏ ‏{‏بشر المنافقين بأن لهم عذابًا أليمًا‏}‏‏.‏ وهم ‏{‏الذين يتخذون الكافرين أولياء‏}‏ أي‏:‏ أحبابًا وأصدقاء ‏{‏من دون المؤمنين‏}‏، وقد كان الكفار قبل ظهور الإسلام لهم الصولة والجاه، فطلب المنافقون أن ينالوا بولايتهم ومصادقتهم العزّ منهم، فردّ الله عليهم بقوله‏:‏ ‏{‏أيبتغون عندهم العزة‏}‏ بولايتهم‏؟‏ ‏{‏فإن العزة لله جميعًا‏}‏ ولرسوله ولأوليائه، ولا عزة لغيره؛ إذ لا يعبأ بعزة لا تدوم ويعقبها الذل‏.‏

الإشارة‏:‏ من كان ضعيفَ الاعتقاد في أهل الخصوصية، ضعيفَ التصديق، تراه تارة يدخل وتارة يخرج، وتارة يصدق وتارة ينكر، لا يُرجى فلاحُه في طريق الخصوص، فإن ضم إلى ذلك صحبة أهل الإنكار وولايتهم، فبشره بالخيبة والخسران، فإن تعزز بعزهم أعقبه الذل والهوان، والعياذ بالله من الخذلان، فالعز إنما يكون بعز التوحيد والإيمان، وعزة المعرفة والإحسان، وبصحبة أهل العرفان، الذين تعززوا بعز الرحمن، فمن تعزز بعز يفنى مات عزه، ومن تعزز بعز يبقى دام عزه، والشبكة التي يصطاد بها العزّ هو الذل لله، يظهره بين عباد الله‏.‏ قال بعضهم‏:‏ والله ما رأيت العز إلا في الذل‏.‏ وقال الشاعر‏:‏

تَذَلَّل لمن تَهوَى لتكسِب عزَّةً *** فَكَم عِزَّةٍ قَد نَالَهَا المَرءُ بالدُّلِّ

وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏140- 141‏]‏

‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آَيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا ‏(‏140‏)‏ الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قَالُوا أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَإِنْ كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قَالُوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكَافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا ‏(‏141‏)‏‏}‏

‏{‏وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الكتاب أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ الله يُكَفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏أن‏}‏ مخفف‏:‏ نافية، فاعل نزّل، و‏{‏يكفر‏}‏ و‏{‏يُستهزأ‏}‏، حالان من الآيات، وضمير ‏{‏معهم‏}‏‏:‏ يعود على الكفار المفهوم من ‏{‏يكفر‏}‏، وضمير ‏{‏غيره‏}‏؛ يعود على الكفر والاستهزاء، وهما شيء واحد‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في التحذير من مجالسة أهل الكفر والمعاصي‏:‏ ‏{‏وقد نزل عليكم‏}‏ يا معشر المسلمين في القرآن في سورة الأنعام، أنه ‏{‏إذا سمعتم آيات الله‏}‏ حال كونها ‏{‏يُكفَر بها ويُستَهزأ بها فلا تقعدوا معهم‏}‏ بل قوموا عنهم، إن لم تقدروا أن تنكروا عليهم، والآية التي في سورة الإنعام قوله تعالى‏:‏ «وَإِذَا رَأَيْتَ الذين يَخُوضُونَ في آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حتى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ» ‏[‏الأنعام‏:‏ 68‏]‏ الآية‏.‏ فما داموا في الخوض فاعرضوا عنهم حتى يخوضوا في حديث غير الخوض، فإن جلستم معهم في حال الخوض فإنكم ‏{‏إذًا مثلهم‏}‏ في الإثم، إن لم ترضوا، أو في الكفر، إن رضيتم بخوضهم‏.‏

نزلت في قوم من المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود، فيسخرون من القرآن، ويكذبون به ويحرفونه، فنهى المسلمين عن مجالستهم، قال ابن عباس‏:‏ ودخل في هذه الآية كُلُّ مُحدِث في الدين ومُبتدعٍ إلى يوم القيامةً‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ أولياء الله آيات من آيات الله‏:‏ فمن استهزأ بهم فقد استوجب المقت من الله، وكل موطن يقع فيه الإنكار عليهم أو الغض من مرتبتهم، يجب الفرار منه، لأنه موطن الغضب ومحل الهلاك والعَطب، فإن لحوم الأولياء سموم قاتلة، واللعنة على من يقع فيهم حاصلة، فمن جلس مع أهل الخوض من غير عذر، كان من الخائضين، ومن فرّ منهم كان من الناجين، ومن أنكر على من يقع فيهم كان من المجاهدين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم ذكر وعيد الخائضين ومن رضي بخوضهم، فقال‏:‏

‏.‏‏.‏‏.‏ ‏{‏إِنَّ الله جَامِعُ المنافقين والكافرين فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً الذين يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِن كَانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِّنَ الله قالوا أَلَمْ نَكُنْ مَّعَكُمْ وَإِن كَانَ لِلْكَافِرِينَ نَصِيبٌ قالوا أَلَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَنَمْنَعْكُمْ مِّنَ المؤمنين فالله يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ القيامة وَلَن يَجْعَلَ الله لِلْكَافِرِينَ عَلَى المؤمنين سَبِيلاً‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏الذين‏}‏‏:‏ صفة المنافقين، أو نصب على الذم، و‏{‏نستحوذ‏}‏‏:‏ تغلب، استحوذ‏:‏ غلب، جاء على أصله، ولم يُعلّ كاستعاذ والقياس‏:‏ استحاذ، يستحيذ، كاستعاذ يستعيذ، لكنه صحح تنبيهًا على الأصل‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الله‏}‏ سيجمع ‏{‏المنافقين والكافرين‏}‏، أي‏:‏ الخائضين والقاعدين معهم، ‏{‏في جهنم جميعًا‏}‏ خالدين فيها‏.‏ ‏{‏الذين يتربصون بكم‏}‏ أي‏:‏ ينتظرون بكم الدوائر، أي‏:‏ ما يدور به الزمان والدهر عليكم، وهم المنافقون، ‏{‏فإن كان لكم فتح من الله‏}‏ كالنصر والغنيمة ‏{‏قالوا‏}‏ للمؤمنين‏:‏ ‏{‏ألم نكن معكم‏}‏ على دينكم، فأعطونا مما غنمتم، ‏{‏وإن كان للكافرين نصيب‏}‏؛ دولة أو ظهور على المسلمين، ‏{‏قالوا‏}‏ لهم‏:‏ ‏{‏ألم نستحوذ عليكم‏}‏ أي‏:‏ نغلبكم ونتمكن من قتلكم، وأبقينا عليكم فمنعناكم من قتل المسلمين لكم، بأن خذلناهم بتخييل ما ضعُفت به عزيمتهم عليكم، وتوانينا في مظاهرتهم عليكم، فأشركُونا مما أصبتم‏.‏

وإنما سمي ظفر المسلمين فتحًا، وظفر الكافرين نصيبًا؛ لخسة حظه، فإنه حظ دنياوي، استدراجًا ومكرًا، بخلاف ظفر المسلمين، فإنه إظهار الدين، وإعانة بالغنيمة للمسلمين‏.‏

‏{‏فالله يحكم بينهم يوم القيامة‏}‏؛ فيدخل أهل الحق الجنة، ويدخل أهل الخوض النار، ‏{‏ولن يجعل الله للكافرين على المؤمنين سبيلاً‏}‏ أي‏:‏ حجة، أو غلبة في الدنيا والآخرة، وفيه دليل على عدم صحة ملك الكافر للمسلم، فيباع عليه إن اشتراه، ويفسخ نكاحه إن تزوج مسلمة‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ ‏(‏المرء مع من أحب‏)‏؛ من أحبَّ قومًا حُشر معهم، فمن أحب أهل الخوض حُشر مع الخائضين، ومن أحب أهل الصفا حشر مع المخلصين، وإن كان مذبذبًا يميل مع كل ريح؛ حشر مع المخلصين، وهو من خف عقله وضعف يقينه، إن رأى بأهل النسبة من الفقراء عزًا ونصرًا وفتحًا انحاز إليهم، وقال‏:‏ ألم نكن معكم، وإن رأى لأهل الإنكار من العوام صولة وغلبة رجع إليهم، وقال‏:‏ ألم نستحوذ عليكم ونمنعكم من دعاء الصالحين عليكم، فما لهذه عند الله من خلاق‏.‏ وفي الحديث‏:‏ «ذو الوجهين لا يكون عند الله وجيهًا» فالله يحكم بينهم يوم القيامة، فيرفع أهل الصفا مع المقربين، ويسقط أهل الخوض مع الخائضين، وليس لأهل الخوض من أهل الإنكار سبيل ولا حجة على أهل الصفا من الأبرار، ‏{‏إِنَّ اللهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَواْ وَّالَّذِينَ هُم مُّحْسِنُونَ‏}‏ ‏[‏النّحل‏:‏ 128‏]‏‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏142- 143‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ وَإِذَا قَامُوا إِلَى الصَّلَاةِ قَامُوا كُسَالَى يُرَاءُونَ النَّاسَ وَلَا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏142‏)‏ مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا ‏(‏143‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ جملة‏:‏ ‏{‏ولا يذكرون الله‏}‏؛ حال من واو ‏{‏يُراءون‏}‏، وكذلك ‏{‏مذبذبين‏}‏ أي‏:‏ يراءون حال كونهم غير ذاكرين مذبذبين، أو منصوب على الذم، والمذبذب المضطرب المتردد‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن المنافقين يُخادعون الله‏}‏ بإظهار الإيمان وإخفاء الكفر، ‏{‏وهو خادعهم‏}‏، أي‏:‏ مجازيهم على خداعهم؛ بأن يظهر لهم يوم القيامة، نورًا يمشون به على الصراط، كما يعطي المؤمنين، فإذا مضوا به طُفِىءَ نورهم وبقي نور المؤمنين، فينادونهم‏:‏ ‏{‏انظُرُونَا نَقْتَبِس مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُواْ وَرَآءَكُمْ فَالْتَمِسُواْ نُورًا‏}‏ ‏[‏الحديد‏:‏ 13‏]‏، فيتهافتون في النار، فسمي هذه العقوبة خداعًا تسمية للعقوبة باسم الذنب‏.‏

وكانوا ‏{‏إذا قاموا إلى الصلاة قاموا كسالى‏}‏ أي‏:‏ متثاقلين، لا يريدون بها وجه الله، فإن رءاهم أحد، صلوا، وإلاَّ انصرفوا، فلم يصلوا، ‏{‏يُراءون‏}‏ بأعمالهم ‏{‏الناس‏}‏ أي‏:‏ المؤمنين، ‏{‏ولا يذكرون الله إلا قليلاً‏}‏؛ لأن المرئي لا يذكر إلا بحرة الناس، وهو أقل أحواله، أو لا يذكرونه في صلاتهم إلا قليلاً، لأنهم لا يذكرون إلا التكبير والتسليم، وقال ابن عباس‏:‏ إنما ذلك لأنهم يفعلونها رياءً وسمعةً، ولو أرادوا بذلك وجه الله تعالى لكان كثيرًا‏.‏ وقال قتادة‏:‏ إنما قل ذكرهم، لأنه لم يُقبل، فكل ما رُدَّ من العمل فهو قليل، وكل ما قُّبل فهو كثير‏.‏

وكانوا أيضًا ‏{‏مذبذبين‏}‏ أي‏:‏ مترددين ومتحيرين بين الكفر والإيمان، ‏{‏لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء‏}‏ أي‏:‏ لا صائرين إلى المؤمنين ولا إلى الكافرين‏.‏ قال قتادة‏:‏ ماهم بمؤمنين مخلصين، ولا مشركين مُصَرِّحين بالشرك، هكذا سبق في علم الله، ‏{‏ومن يضلل الله فلن تجد له سبيلاً‏}‏ أي‏:‏ طريقًا إلى الهدى، ومثله قوله تعالى‏:‏ ‏{‏وَمَن لَّمْ يَجْعَلِ اللهُ لَهُ نُورًا فَمَا لَهُ مِن نُّورٍ‏}‏ ‏[‏النور‏:‏ 40‏]‏‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من أحب أن يَرى الناسُ محاسنَ أعماله وأحواله، ففيه شعبة من النفاق وشعبة من الرياء، وعلامة المرائي‏:‏ تزيين ظاهرة وتخريب باطنه، يتزين للناس بحسن أعماله وأحواله، يراقب الناس ولا يراقب الله، وكان بعضُ الحكماء يقول‏:‏ يقول الله تعالى‏:‏ «يا مُرائي‏:‏ أمرُ من ترائى بيد من تعصيه» فمثل هذا أعماله كلها قليلة، ولو كثرت في الحس كالجبال الرواسي، وأعمال المخلصين كلها كثيرة ولو قلَّت في الحس، وأعمال المرائين كلها قليلة ولو كثرت في الحس‏.‏ قال في القوت‏:‏ وَصَفَ اللهُ تعالى ذكر المنافقين بالقلة، لكونه غير خاص، كما قيل في تفسير قوله تعالى‏:‏ ‏{‏ذِكْرًا كَثِيرًا‏}‏ ‏[‏الأحزَاب‏:‏ 41‏]‏ أي‏:‏ خالصًا، فسمي الخالص كثيرًا‏.‏ ه‏.‏

قولى تعالى‏:‏ ‏{‏مذبذبين بين ذلك‏}‏‏:‏ هذه صفة أهل الدعوى، المستشرفين على الحقيقة بالعلم، ليسوا من الخصوص ولا من العموم، مترددين بين الفريقين، ومن يضلل الله عن طريق التحقيق، فلن تجد له سبيلاً‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏144‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَتُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏144‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ اتخذ، يتعدّى إلى مفعولين، و‏{‏من دون‏}‏‏:‏ حال‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الذين آمنوا‏}‏ لا تتشبهوا بالمنافقين فتتخذوا ‏{‏الكافرين أولياء‏}‏ وأصدقاء ‏{‏من المؤمنين‏}‏؛ لأن الله أعزكم بالإيمان والنصر، فلا تطلبوا العز من أحد سواه، ‏{‏أتريدون أن تجعلوا لله عليكم سلطانًا مبينًا‏}‏ أي‏:‏ حجة واضحة على تعذيبكم وسببًا في عقابكم‏.‏

الإشارة‏:‏ قد تقدم في كثير من الإشارات النهي عن موالاة أهل الإنكار على الأولياء، وعن مخالطة أهل الدنيا وصحبتهم، فإن ذلك حجة واضحة على الرجوع إليهم ومصانعتهم، وهو عين النفاق عند المخلصين‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏145- 147‏]‏

‏{‏إِنَّ الْمُنَافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيرًا ‏(‏145‏)‏ إِلَّا الَّذِينَ تَابُوا وَأَصْلَحُوا وَاعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَأَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولَئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَسَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏146‏)‏ مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآَمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا ‏(‏147‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ الدَّرَك والدَّرْك لغتان، كالظَّعَن والظَّعْن، والنَّهَر والنَّهْر، والنَّشَر والنَّشْر، وهي الطبقة السفلى، وسميت طبقاتهم دركات؛ لأنها مُتداركة متتابعة، وهي ضد الدرجات، فالدرجات للعلو، والدركات للسفل‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏}‏ أي‏:‏ في الطبقة السفلى في قَعر جهنم؛ لإنهم أخبث الكفرة، حيث ضموا إلى الكفر الاستهزاء بالإسلام وخداع المسلمين‏.‏ قال ابن مسعود رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏هم في توابيت من النار مقفلة عليهم في النار، مطبقة عليهم‏)‏‏.‏ وعن ابن عمر رضي الله عنه‏:‏ ‏(‏إن أشد الناس عذابًا يوم القيامة ثلاثة‏:‏ المنافقون، وممن كفر من أصحاب المائدة، وآل فرعون لقوله‏:‏ ‏{‏إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار‏}‏ وقال في أصحاب المائدة‏:‏ ‏{‏فَإِنْي أُعَذِبُهُ عَذَابًا لآَّ أُعَذِبُهُ أَحَدًا مِّنَ الْعَالمِينَ‏}‏ ‏[‏المَائدة‏:‏ 115‏]‏‏.‏ وقال‏:‏ ‏{‏ادْخِلُوَاْ ءَالَ فِرْعَوْنَ أَشَدَ الْعَذَابِ‏}‏ ‏[‏غافر‏:‏ 46‏]‏، ‏{‏ولن تجد لهم نصيرًا‏}‏ يمنعهم من ذلك العذاب‏.‏ ‏{‏إلا الذين تابوا‏}‏ عن النفاق ‏{‏وأصلحوا‏}‏ ما أفسدوا في سرائرهم وأعمالهم في حال النفاق، ‏{‏واعتصموا بالله‏}‏ أي‏:‏ وثقوا به وتمسكوا به، دون أحد سواه، ‏{‏وأخلصوا دينهم لله‏}‏ لا يريدون بطاعته إلا وجه الله، ولا رياءً ولا سمعةً ‏{‏فأولئك مع المؤمنين‏}‏ في الدين‏.‏ قال الفرَّاء‏:‏ من المؤمنين، وقال العتبي‏:‏ حاد عن كلامهم غيظًا عليهم، ولم يقل هم المؤمنون‏.‏ ه‏.‏ قلت‏:‏ إنما قال‏:‏ ‏{‏مع المؤمنين‏}‏ ولم يقل‏:‏ منهم، لأن التخلص من النفاق صعب، ولا يكون من المؤمنين، حتى يتخلص من جميع شعبه، وهو عزيز، وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ثَلاثٌ مَن كُنَّ فيه فهُوَ مُنَافقٌ، وإن صَامَ وصلَّى وزَعم أنه مُسلمٌ، من إذا حدَّثَ كَذَبَ، وإذَا وعَدَ أخلفَ، وإذا ائُتمِنَ خَانَ»‏.‏

‏{‏وسوف يُؤت الله المؤمنين‏}‏ المخلصين ‏{‏أجرًا عظيمًا‏}‏ فيساهُمونَهم فيه إن تابوا وأصلحوا، فإن الله غني عن عذابهم، ولذلك قال‏:‏ ‏{‏ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم‏}‏ أي‏:‏ لا حاجة له في عذابكم، فلا يُشفى به غيظًا ولا يدفع به ضررًا، أو يستجلب به نفعًا؛ لأنه غنيَّ عن المنافع، وإنما يعاقب المصر بكفره، لأن إصراره عليه كسوء المزاج يؤدي إلى مرض فإن زال بالإيمان والشكر، ونقَّى منه قلبه، تخلص من تبعته‏.‏ وإنما قدم الشكر؛ لإن الناظر يدرك النعم أولاً فيشكر شكرًا مبهمًا، ثم يمعن النظر حتى يعرف المنعم فيؤمن به‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏ وقال الثعلبي‏:‏ فيه تقديم تأخير، أي إن آمنتم وشكرتم، لأن الشكر لا ينفع مع عدم الإيمان‏.‏ ‏{‏وكان الله شاكرًا‏}‏ لأعمال عباده، يقبل اليسير ويعطي الكثير، ‏{‏عليمًا‏}‏ بحقيقة شكرهم وإيمانهم، ومقدار أعمالهم، فيضاعفها على قدر تخليصها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ لا شيء أصعب على النفس من الإخلاص؛ كلما اجتهد العبد في قطع الرياء؛ نبت على لون آخر، فلا يتطهر العبد منها إلا بتحقيق الفناء والغيبة عن السوى بالكلية‏.‏

كما قال الششتري رضي الله عنه‏:‏

طهَّرَ العَينَ بالمَدامِعِ سَكبًا *** مِن شُهُودِ السَّوى تَزُل كلُّ عِلَّه

قال بعضهم‏:‏ ‏[‏لا ينبت الإخلاص في القلب؛ حتى يَسقط من عين الناس، ويُسقط الناسَ من عينه‏]‏‏.‏ والإخلاص من أعمال القلوب، فلا يطَّلع عليه إلا علآَّم الغيوب، فلا يجوز أن يحكم على أحد بالرياء بمجرد ما يرى عليه من الإظهار، وقد تدخل الرياء مع الإسرار، وتتخلص من القلب مع الإظهار، وفي الحكم‏:‏ «ربما دخل الرياءُ عليك حيث لا ينظر الخلق إليك»‏.‏ فإذا تخلص العبد من دقائق الرياء، وأصلح ما بينه وبين الله واعتصم به دون شيء سواه، كان مع المخلصين المقربين؛ فيكون عمله موفورًا، وسعيه مشكورًا‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

وقد تكلم في الإحياء على هذه الآية فقال‏:‏ إنما كان المنافقون في الدرك الأسفل؛ لأنهم جحدوا بعد العلم، وإنما تضاعف عذاب العالم في معصيته؛ لأنه عَصَى عن علم‏.‏ قلت‏:‏ وافهم منه قوله صلى الله عليه وسلم في أبي طالب «وَلَولاَ أنَا لَكَانَ فِي الدَّركِ الأسفلَ مِنَ النَّارِ» وذلك لاعراضه مع العلم‏.‏ وقال في الإحياء أيضًا‏:‏ شدَّد أمر المنافقين؛ لإن الكافر كفرَ وأظهَرَ، والمنافق كفر وستر، فكان ستره لكفره كفرًا آخر، لأنه استخف بنظر الله إلى قلبه، وعظَّم أمر المخلوقين‏.‏ ه‏.‏ والحاصل‏:‏ أن التشديد في الرياء والنفاق؛ لِمَا في ذلك من تعظيم نظر الخلق على نظر الخالق، فكان أعظمَ من الكفر الصريح‏.‏ ه‏.‏ من الحاشية‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏148- 149‏]‏

‏{‏لَا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا عَلِيمًا ‏(‏148‏)‏ إِنْ تُبْدُوا خَيْرًا أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوًّا قَدِيرًا ‏(‏149‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏إلا من ظلم‏}‏‏:‏ استثناء منقطع، أي‏:‏ لكن من ظلم فلا بأس أن يشكو بظالمه ويدعو عليه، وليس المراد أن الله يحب ذلك منه، إذ العفو أحسن كما يقوله بعد، وقٌرىء‏:‏ ‏{‏إلا من ظَلَم‏}‏ بالبناء للفاعل، أي‏:‏ ولكن الظالم يفعل ما لا يحبه الله‏.‏

يقول الحقّ جلَ جلاله‏:‏ ‏{‏لا يحب الله الجهر‏}‏ أي‏:‏ الإجهار ‏{‏بالسوء من القول‏}‏؛ لأنه مِن فِعل أهل الجفاء والجهل ‏{‏ألا من ظُلم‏}‏ فلا بأس أن يجهر بالدعاء على ظالمه، أو بالشكوى به‏.‏ نظيرها‏:‏ ‏{‏وَلَمَنِ انتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُوْلَئِكَ مَا عَلَيْهِم مِن سَبِيلٍ‏}‏ ‏[‏الشّورى‏:‏ 41‏]‏‏.‏ قال مجاهد‏:‏ هذا في الضيف النازل إذا لم يُضَف ومُنِع حقه، أو أُسِيءَ قِراه، فقد رخص له أن يذكر ما صُنعَ به‏.‏ وزَعَم أن ضيفًا تَضَيَّفِ قومًا فأساؤوا قراه، فاشتكاهم، فنزلت الآية رخصة في شكواه‏.‏ ‏{‏وكان الله سميعًا‏}‏ لدعاء المظلوم، ورده على الظالم، فلا يحتاج إلى جهره، ‏{‏عليمًا‏}‏ بالظالم فيعاقبه على قدر جرمه‏.‏

ثم رغَّب في العفو فقال‏:‏ ‏{‏إن تُبدوا خيرًا‏}‏‏:‏ طاعة وبرًا كحسن الخلق ولين الجانب، ‏{‏أو تُخفوه‏}‏ أي‏:‏ تفعلوه سرًا، ‏{‏أو تعفوا عن سوء‏}‏ بأن لا تؤاخذوا به من أساء إليكم، وهذا هو المقصود بالذكر، وإنما ذُكِرَ إبداءُ الخير وإخفاؤُه سببًا ووسيلة لذكره، ولذلك رتب عليه ‏{‏فإن الله كان عفوًا قديرًا‏}‏ أي‏:‏ كثير العفو عن العُصاة، مع كمال قدرته على الانتقام، فأنتم أولى بذلك، وهو حث للمظلوم على العفو، بعدما رخَّص له في الانتصار، حملاً على مكارم الأخلاق‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن الباطن إذا كمل تطهيره وتحقق تنويره؛ ظهر أثر ذلك على الظاهر من مكارم الأخلاق، ولين الجانب، وحسن الخطاب، وترك العتاب، فما كمن في غيب السرائر ظهر في شهادة الظواهر؛ وما كمن فيك ظهر على فيك، وهذه أخلاق الصوفية رضي الله عنهم وأرضاهم وبذلك وصفهم القائل فيهم، فقال‏:‏

هيْنُون ليْنُون أيسَارٌ بنو يَسَرٍ *** سُوَّاسُ مَكرُمَةِ أبناءُ أيسَارِ

لا يَنطقُون بغيرِ الحقِّ إن نطقُوا *** ولا يُمَاروُنَ إن مارَوُا بإكثَارِ

مَن تَلق مِنهُم تَقُل هذاك سَيِّدهُم *** مِثلُ النُّجُومِ التي يُهدَى بها السَّارِ

ومن شأن الحضرة التهذيب والتأديب، فلا يبقى معها لغو ولا تأثيم، لأنها جنة معجلة، قال تعالى ‏{‏لا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا وَلاَ تَأْثِمًا، إِلاَّ قِيلاً سَلاَمًا سَلاَمًا‏}‏ ‏[‏الواقعة‏:‏ 25، 26‏]‏‏.‏

وأيضَا أهل الحضرة حصل لهم القرب من الحبيب، فهم في حضرة القريب على بساط القرب على الدوام، ولا يتصور منهم الجهر بالكلام، وهم في حضرة الملك العلاَّم‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏وَخَشَعَتِ الأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلاَ تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْسًا‏}‏ ‏[‏طه‏:‏ 108‏]‏، فرفعُ الصوت عند الصوفية مذموم شنيع، يدل على بُعد صاحبه كيف ما كان، وتأمل قضية الصِّدِّيق حيث قال له عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ما لَك تقرأ سرًا‏؟‏» فقال‏:‏ ‏(‏إن الذي نناجيه ليس ببعيد‏)‏‏.‏ أو كما قال، وإنما قال له صلى الله عليه وسلم «ارفع قليلاً»؛ إخراجًا له عن مُراده، تربية له‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏150- 151‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَرُسُلِهِ وَيَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَنَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَيُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا ‏(‏150‏)‏ أُولَئِكَ هُمُ الْكَافِرُونَ حَقًّا وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ عَذَابًا مُهِينًا ‏(‏151‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏حقًا‏}‏‏:‏ مصدر مؤكد للجملة، أو صفة لمصدر الكافرين، أي‏:‏ كفروا كفرًا محققًا يقينًا‏.‏ وأصل ‏{‏أعتدنا‏}‏‏:‏ أعددنا، أبدلت الدال تاء؛ لقرب المخرج‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين يكفرون بالله ورسوله ويريدون أن يُفرقوا بين الله ورسله‏}‏ بأن يؤمنوا بالله ويكفروا برسله، ‏{‏ويقولون نؤمن ببعض‏}‏ الأنبياء ‏{‏ونكفر ببعض‏}‏، كاليهود، آمنوا بموسى وعُزير والتوراة، وكفروا بعيسى ومحمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏ويريدون أن يتخذوا بين ذلك سبيلاً‏}‏، أي‏:‏ طريقًا وسطًا بين الإيمان والكفر، ولا واسطة، إذ الحق لا يختلف، فإن الإيمان بالله إنما يتم برسله وتصديقهم فيما بلغوا عنه، تفصيلاً وإجمالاً، فالكافر بالبعض كالكافر بالكل في الضلال‏.‏ ولذلك حكم عليهم بصريح الكفر فقال‏:‏ ‏{‏أولئك هم الكفرون حقًا‏}‏ أي‏:‏ هم الكاملون في الكفر حقيقة، وإنما أكد كفرهم لأنهم تحكموا على الله، واتخذوا إلههم هواهم، حيث جعلوا الاختيار لهم دون الله، وفي ذلك منازعة للقدر، وتعطيل له، وهو كفر وشرك، ثم ذَكَرَ وعيدَهم فقال‏:‏ ‏{‏وأعتدنا‏}‏ أي‏:‏ هيأنا ‏{‏للكافرين‏}‏ منهم ‏{‏عذابًا مهينًا‏}‏ أي‏:‏ يخزيهم ويهينهم، حين يُكرِّم أولياءَه ويرفع أقدارهم‏.‏ جعلنا الله منهم‏.‏ آمين‏.‏

الإشارة‏:‏ الأولياء على قدم الأنبياء، فمن فرَّق بينهم حُرم بركةَ جميعهم ومن صدَّق بجميعهم وعَظَّمَهم اقتبس من أنوارهم كلهم، والله تعالى غيور على أوليائه، كما كان غيورًا على أنبيائه، فطرد من فرَّق بينهم، فكذلك يطرد من يقع في بعض أوليائه ويعظم البعض، لأن البعض هو الكل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏152‏]‏

‏{‏وَالَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولَئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا ‏(‏152‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏بين‏}‏‏:‏ من الأمور النسبية، فلا بد أن تدخل على متعدد، تقول؛ جلست بين فلان وفلان، وإنما دخلت هنا على ‏{‏أحد‏}‏؛ لأنه يقتضي متعددًا لعمومه، لانه رفع في سياق النفي‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏والذين آمنوا بالله‏}‏ وما يجب له من الكمالات، ‏{‏ورسله‏}‏ وما يجب لهم كذلك، ‏{‏ولم يُفرقوا بين أحد منهم‏}‏ بأن آمنوا بجميعهم، وصدقوا بكل ما جاؤوا به من عند ربهم، ‏{‏أولئك سوف نؤتيهم أجورهم‏}‏ الموعودة لهم، بأن نُجِلَّ مقدارهم، ونرفع مقامهم، ونُبوئهم في جنات النعيم‏.‏ وتصديره بسوف؛ لتأكيد الوعد والدلالة على أنه كائن لا محالة وإن تأخر وقته، ولمًا كان العبد لا يخلوا من نقص، رفع الخوف عنهم بقوله‏:‏ ‏{‏وكان الله غفورًا‏}‏ لما فرط منهم ‏{‏رحيمًا‏}‏ بهم بتضعيف حسناتهم‏.‏

الإشارة‏:‏ والذين صدقوا بأولياء الله، وعظموا جميعهم، واقتبسوا من أنوارهم كلهم، أولئك سوف نؤتيهم أجورهم، بأن أُنعمهم في جنات المعارف في دار الدنيا، فإن ماتوا أسكنَّاهم في الفراذيس العُلَى ‏{‏في مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرِ‏}‏ ‏[‏القمر‏:‏ 55‏]‏‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏153- 154‏]‏

‏{‏يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسَى أَكْبَرَ مِنْ ذَلِكَ فَقَالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ فَعَفَوْنَا عَنْ ذَلِكَ وَآَتَيْنَا مُوسَى سُلْطَانًا مُبِينًا ‏(‏153‏)‏ وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبَابَ سُجَّدًا وَقُلْنَا لَهُمْ لَا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِيثَاقًا غَلِيظًا ‏(‏154‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ من قرأ‏:‏ ‏{‏لا تعدوا‏}‏ بالسكون، فماضيه‏:‏ عدا، ومن قرأ بتشدد الدال، فماضيه اعتَدى، وأصله‏:‏ لا تعتدوا، فنُقلت حركة التاء إلى العين وأُدغمت التاء في الدال، ومن قرأ بالاختلاس أشار إلى الأصل‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يسألك أهل الكتاب‏}‏، وهم أحبار اليهود، ‏{‏أن تنزل عليهم كتابًا من السماء‏}‏ جملة واحدة، كما نزل التوراة، أو كتابًا بخطَّ سماوي على ألواح كما كانت التوراة، والسائل هو كعب بن الأشرف وفنحاص بن عازوراء وغيرهم، قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ ‏(‏إن كنت نبيًا فأتنا بكتاب من السماء جملةً، كما أتى به موسى‏)‏، قال تعالى في الرد عليهم‏:‏ ‏{‏فقد سألوا موسى أكبر من ذلك‏}‏؛ وهو رؤية ذات الحقّ تعالى جهرًا حسًا‏.‏ والمعنى‏:‏ إن استعظمت ما سألوا منك فقد وقع منهم ما هو أعظم من ذلك‏.‏

وهذا السؤال، وإن كان من آبائهم، أُسند إليهم؛ لأنهم كانوا آخذين بمذهبهم تابعين لهديهم، فما اقترحوا عليكم ليس بأول جهالاتهم وتشغيبهم؛ بل عُرفُهُم راسخٌ في ذلك، فلا تستغرب ما وقع منهم‏.‏

ثم فسر سؤالهم بقوله‏:‏ ‏{‏فقالوا أرنا الله جهرة‏}‏ أي‏:‏ عيانًا في الحس، ‏{‏فأخذتهم الصاعقة‏}‏، بأن جاءت نار من السماء فأهلكتهم، فماتوا ثم بُعثوا بدعوة موسى عليه السلام وذلك بسبب ظلمهم‏.‏ وهو تعنتهم وسؤالهم لما أستحيل في تلك الحال التي كانوا عليها‏.‏ وذلك لا يقتضي امتناع الرؤية مطلقًا‏.‏ وسيأتي في الإشارة تحرير ذلك‏.‏

‏{‏ثم اتخذوا العجل من بعد ما جاءتهم البينات‏}‏ على وحدانيته تعالى‏.‏ وهذه جناية أخرى اقترفها أيضًا أوائلهم، ‏{‏فعفونا عن ذلك‏}‏ حيث تابوا، ولم نعاجلهم بالعقوبة، ‏{‏وأتينا موسى سلطانًا مبينًا‏}‏ أي‏:‏ تسلطًا ظاهرًا عليهم، حين أمرهم أن يقتلوا أنفسهم، توبة من اتخاذهم العجل إلهًا، وحجة واضحة على نبوته كالآيات التسع‏.‏

‏{‏ورفعنا فوقهم الطور‏}‏ حيث امتنعوا من قبول أحكام التوراة، بسبب ميثاقهم الذي أخذناه عليهم، وهو التزام أحكام التوراة، وقلنا لهم على لسان موسى‏:‏ ‏{‏ادخلوا الباب سجّدًا‏}‏ أي‏:‏ باب بيت المقدس، فدخلوا يزحفون على استاههم عنادًا واستهزاءً، وقلنا لهم‏:‏ ‏{‏لا تعدوا في السبت‏}‏ على لسان داود عليه السلام، فاعتدوا فيه بالاصطياد، فمسخناهم قردةً وخنازير، ‏{‏وأخذنا منهم ميثاقًا غليظًا‏}‏ على ذلك كله، فنقضوا جميع ذلك، أو ميثاقًا غليظًا في التوراة؛ لئن أدركوك ليؤمنن بك، وليبينن صفتك للناس، فنقضوا وكتموا‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ اقتراح الآيات وطلب الكرامات من الأولياء، سنة ماضية، لأنهم على قدم الأنبياء عليهم السلام ما يقال لهم إلا ما قيل للأنبياء قبلهم، فلا تكاد تجد أحدًا يصدق بولي حتى تظهر عليه الكرامة، وهو جهل كبير؛ لأن الكرامة قد تظهر على من لم تكمل له استقامة، وقد تكون استدراجًا ومكرًا‏.‏

وأيُّ كرامة أعظم من العلوم اللدنية والأخلاق النبوية‏؟‏ كما قال شيخنا رضي الله عنه‏.‏ وقد ظهرت الكرامات على المتقدمين ولم ينقطع الإنكار عليهم‏.‏

واعلم أن طلب الرؤية في الدنيا ليس بممتنع، وإنما عاقب الله بني إسرائيل على طلبها؛ لأنهم طلبوها قبل إبانها، طلبوها من غير اتصاف بشروط حصولها، وهو كمال التهذيب والتطهير من دنس الحس، فمن كمل تهذيبه وتحقق تطهيره حصل له شهود الحق، حتى لو كلف أن يشهد غيره لم يستطع، وذلك حين تستولي البصيرة على البصر، فيشهد البصر ما كانت تشهده البصيرة، وذلك بعد كمال فتحها‏.‏ ولذلك قال في الحِكَم‏:‏ «شعاعُ البصيرة يُشهدك قربَ الحق منك، وعين البصيرة يشهدك عدمك لوجوده، وحق البصيرة يشهدك وجود الحق»‏.‏‏.‏‏.‏ الخ كلامه‏.‏ وهذه المشاهدة لا تحصل إلا لمن اتصل بشيخ التربية، وإلا فلا مطمع فيها‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏155- 158‏]‏

‏{‏فَبِمَا نَقْضِهِمْ مِيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِمْ بِآَيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الْأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا ‏(‏155‏)‏ وَبِكُفْرِهِمْ وَقَوْلِهِمْ عَلَى مَرْيَمَ بُهْتَانًا عَظِيمًا ‏(‏156‏)‏ وَقَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَمَا قَتَلُوهُ وَمَا صَلَبُوهُ وَلَكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَإِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّبَاعَ الظَّنِّ وَمَا قَتَلُوهُ يَقِينًا ‏(‏157‏)‏ بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏158‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏فبما‏}‏‏:‏ صلة زيدت للتأكيد، و‏{‏نقضهم‏}‏‏:‏ مصدر مجرور بالباء، وهي متعلقة بالفعل المحذوف، أي‏:‏ بسبب نقضهم فَعَلنا بهم ما فعلنا، أو بقوله‏:‏ ‏{‏حرَمنا عليهم‏}‏، ويكون ‏{‏فبظلم‏}‏ على هذا بدلاً من قوله‏:‏ ‏{‏فبما نقضهم‏}‏، فيكون التحريم بسبب النقض، وما عطف عليه‏.‏ والاستثناء في قوله‏:‏ ‏{‏إلا اتباع الظن‏}‏ منقطع؛ إذ العلم يناقض الظن‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ فلما أخذنا على بني إسرائيل العهد والميثاق خالفوا ونقضوا، ففعلنا بهم ما فعلنا، بسبب نقضهم ميثاقهم، أو بسبب نقضهم وكفرهم ‏{‏حرمنا عليهم طيبات أُحِلّت لهم‏}‏، وبسبب كفرهم أيضًا ‏{‏بآيات الله‏}‏؛ القرآن، أو بما في كتبهم، ‏{‏وقتلهم الأنبياء بغير حق وقولهم غلف‏}‏ أي‏:‏ مغلفة لا تفقه ما تقول‏.‏

قال تعالى في الرد عليهم‏:‏ ‏{‏بل طبع الله عليها بكفرهم‏}‏، فجعلها محجوبة عن العلم، بأن خذلها ومنعها التوفيق للتدبر في الآيات والتذكر بالمواعظ، ‏{‏فلا يؤمنون إلا قليلاً‏}‏ منهم كعبد الله بن سلام وأصحابه، أو إيمانًا قليلاً لا عبرة به لنقصانه، ‏{‏وبكفرهم‏}‏ أيضًا بعيسى عاقبناهم وطبعنا على قلوبهم، ‏{‏وقولهم على مريم بهتانًا عظيمًا‏}‏ أي‏:‏ نسبتها للزنى وبقولهم‏:‏ ‏{‏إن قتلنا المسيح عيسى ابن مريم رسول الله‏}‏ أي بزعمه، ويحتمل أنهم قالوه استهزاء، ونظيره‏:‏ ‏{‏إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِى أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ‏}‏ ‏[‏الشُّعَرَاء‏:‏ 27‏]‏، أو يكون استئنافًا من الله بمدحه، أو وضعًا للذكر الحسن موضع قولهم القبيح‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

ثم رد الله تعالى عليهم فقال‏:‏ ‏{‏وما قتلوه وما صلبوه ولكن شُبه لهم‏}‏ رُوِي أن رهطًا من اليهود سبوه هو وأمه، فدعا عليهم، فمُسخوا قردة وخنازير، فاجتمعت اليهود على قتله، فقال لهم‏:‏ يا معشر اليهود، إن الله يبغضكم، فغضبوا وثاروا ليقتلوه، فبعث الله تعالى جبريل فأدخله خُوجة فيها كُوة في سقفها، ورفعه الله إلى السماء من تلك الكوة، فأمر اليهود رجلاً منهم يقال له‏:‏ طيطانوس، أن يدخل الخوخة ويقتله، فما دخل الخوخة، لم ير عيسى، فألقى الله تعالى شبه عيسى عليه، فلما أبطأ عليهم دخلوا عليه، فطنوه عيسى، فقتلوه وصلبوه‏.‏

وقال قتادة‏:‏ ذكر لنا أن عيسى عليه السلام قال لأصحابه‏:‏ أيكم يقذف عليه شبهي فيقتل‏؟‏ فقال رجل‏:‏ أنا يا رسول الله، فقتل ذلك الرجل، ورفع عيسى عليه السلام، وكساه الريش وألبسه النور، وقطع عنه ذلة المطعم والمشرب وصار مع الملائكة، فهو معهم في السماء إنسيًا ملكيًا، أرضيًا سماويًا‏.‏

‏{‏وإن الذين اختلفوا فيه لفي شكٍّ منه‏}‏ فقال بعض اليهود‏:‏ إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا‏؟‏ وإن كان صاحبنا فأين عيسى‏؟‏ ويقال‏:‏ إن الله تعالى ألقى شبه وجه عيسى على صاحبهم، ولم يلق عليه شبه جسده، فلما قتلوه ونظروا إليه، فقالوا‏:‏ الوجه وجه عيسى والجسد جسد صاحبنا‏.‏ ‏{‏ما لهم به من علم إلا اتباع الظن‏}‏ أي‏:‏ لا علم لهم بقتله، لكن يتبعون الظن فقط‏.‏

‏{‏وما قتلوه‏}‏ قتلاً ‏{‏يقينًا‏}‏ كما زعموا بقولهم‏:‏ إن قتلنا المسيح، ‏{‏بل رفعه الله إليه‏}‏ فهو في السماء الثانية مع يحيى عليه السلام، ‏{‏وكان الله عزيزًا حكيمًا‏}‏ أي‏:‏ قويًا بالنقمة على اليهود، حكيمًا فيما حكم عليهم من اللعنة والغضب‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ نقضُ عهود الشيوخ من أسباب المقت والبعد عن الله، وكذلك الإنكار عليهم والطعن فيهم، وكذلك البعد عن وعظهم وتذكيرهم، وضد هذا من موجبات القرب والحب من الله، كحفظ حرمتهم، والوقوف مع أوامرهم، والذب عنهم حين تهتك حرمتهم، والدنو منهم، والسعي في خدمتهم‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏159‏]‏

‏{‏وَإِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيدًا ‏(‏159‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏وإن من أهل الكتاب‏}‏ أي‏:‏ ما من يهودي ولا نصراني، أي‏:‏ الموجودين حيث نزوله ‏{‏إلا ليؤمِنَنّ‏}‏ بعيسى ‏{‏قبل موته‏}‏ أي‏:‏ عيسى، وذلك حين نزوله من السماء، رُوِيَ أنه ينزل من السماء حين يخرج الدجال فيهلكه، ولا يبقى أحد من أهل الكتاب إلا ويؤمن به، حتى تكون الملة واحدة، وهي ملة الإسلام، وتقع الأمنة حتى يرتع الأسود مع الإبل، والنمور مع البقر، والذئاب مع الغنم، ويلعب الصبيان بالحيات، ويلبث في الأرض أربعين سنة، ثم يتوفّى ويصلى عليه المسلمون ويدفنونه‏.‏

وقيل الضمير فيه ‏{‏به‏}‏ إلى عيسى، وفي ‏{‏موته‏}‏ إلى الكتابي، أي‏:‏ وإن من أهل الكتاب أحد إلا ليؤمنن بعيسى بأنه عبد الله ورسوله، ‏{‏قبل موته‏}‏ أي‏:‏ قبل خروج نفس ذلك الكتابي إذا عاين الملك، فلا ينفعه حينئٍذ إيمانه، لأن كل من نزل به الموت لم تخرج نفسه حتى يتبين له الحق من الباطل، ويؤيد هذا قراءة من قرأ‏:‏ ‏(‏ليُؤمنُنَّ به قبل موتهم‏)‏ بضم النون، لأن ‏(‏أحدًا‏)‏ في معنى الجمع، وهذا كالوعيد لهم والتحريض على معالجة الإيمان به من قبل أن يُضطر إليه ولم ينفعه إيمانه، ‏{‏ويوم القيامة يكون عليه شهيدًا‏}‏ يشهد على اليهود بالتكذيب، وعلى النصارى بأنهم دعوه ابن الله‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ عند الموت تتحقق الحقائق، ويتميز الحق من الباطل، ويحصل الندم ولا ينفع حين تزل القدم، فالمطلوب المبادرة بتحقيق الإيمان، وتحصيل مقام العرفان، قبل أن يسقط إلى جنبه، فينفرد رهينًا في قبره بذنبه، والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏160- 161‏]‏

‏{‏فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هَادُوا حَرَّمْنَا عَلَيْهِمْ طَيِّبَاتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَبِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيرًا ‏(‏160‏)‏ وَأَخْذِهِمُ الرِّبَا وَقَدْ نُهُوا عَنْهُ وَأَكْلِهِمْ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَأَعْتَدْنَا لِلْكَافِرِينَ مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا ‏(‏161‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ فبسبب ظلم ‏{‏من الذين هادوا‏}‏؛ وهو نقضهم الميثاق، وكفرهم بآيات الله، وقتلهم الأنبياء، ‏{‏حرَمنا عليهم طيبات‏}‏ كانت ‏{‏أُحِلّت لهم‏}‏ كالشحوم، وكل ذي ظفر، وغير ذلك من لذيذ الطيبات، وكانوا كلما ارتكبوا كبيرة حرّم عليهم شيئًا من الطيّبات، وحرّمنا ذلك أيضًا عليهم ‏{‏بصدّهم‏}‏ عن طريق ‏{‏الله‏}‏ صدًّا ‏{‏كثيرًا‏}‏، أي‏:‏ بإعراضهم عنه إعراضًا كثيرًا، أو بصدهم عنه ناسًا كثيرًا كانوا يُخَذِّلونَهُم عن الدخول في دين الله، وبأخذهم الربا ‏{‏وقد نُهوا عنه‏}‏، فهو محرم عليهم وعلى الأمة المحمدية، وبأكلهم ‏{‏أموال الناس بالباطل‏}‏ كالرشوة وما كانوا يأخذونه من عوامهم، ‏{‏وأعتدنا للكافرين منهم‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم ‏{‏عذابًا أليمًا‏}‏، دون من تاب وآمن به‏.‏

الإشارة‏:‏ اعلم أن كل غفلة ومعصية وسوء أدب يحرم مرتكبه بسببه من لذيذ الطاعات وحلاوة المشاهدات على قدره، شعر أو لم يشعر، وقد يبعده من الحضرة، وهو لا يشعر، مكرًا واستدراجًا، فإذا أصر عليه سلب من مقام الولاية بالكلية، ولا يزال ينص إيمانه شيئًا فشيئًا، حتى يتفلت منه، والعياذ بالله، وإذا بادر بالتوبة رجى قبوله، وكل يقظة وطاعة وحسن أدب يوجب لصاحبه الزلفى والقرب من الحضرة، ويزيده في حلاوة المعاملة والمشاهدة على قدره، فلا يزال يتقرب إليه بنوافل الخيرات، حتى يحبه فيتولاه، فيكون سمعه وبصره، كما في الحديث‏.‏ وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏162‏]‏

‏{‏لَكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَالْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَالْمُقِيمِينَ الصَّلَاةَ وَالْمُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَالْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآَخِرِ أُولَئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْرًا عَظِيمًا ‏(‏162‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏والمؤمنون‏}‏ عطف على الراسخين، و‏{‏يؤمنون‏}‏‏:‏ حال منهم‏.‏ و‏{‏المقيمين‏}‏‏:‏ نصب على المدح، لأن العرب إذا تطاولت في مدح شيء أو ذمه خالفوا بين إعراب أوله وأوسطه، نظيره‏:‏ ‏{‏وَالْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذَا عَاهَدُواْ وَالصَّابِرِينَ‏}‏ ‏[‏البَقَرَة‏:‏ 177‏]‏‏.‏ وقالت عائشة رضي الله عنهما‏:‏ هو لحن من الكُتَّاب، وفي مصحف ابن مسعود‏:‏ ‏{‏والمقيمون‏}‏ بالرفع على الأصل‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ليس أهل الكتاب كلهم كما ذكرنا، ‏{‏لكن الراسخون في العلم منهم‏}‏ كعبد الله بن سلام، ومخيريق، وغيرهما ممن له علم بالكتب المتقدمة، ‏{‏والمؤمنون‏}‏ منهم بمحمد صلى الله عليه وسلم، من وعوامهم حال كونهم ‏{‏يؤمنون بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك‏}‏ أي‏:‏ يؤمنون إيمانًا كاملاً بلا تفريق، وأخص ‏{‏المقيمين الصلاة‏}‏، المتقنين لها، ‏{‏المؤتون الزكاة‏}‏ المفروضة، ‏{‏والمؤمنون‏}‏ منهم ‏{‏بالله واليوم الآخر‏}‏، على صفة ما جاء به القرآن من البعث بالأجسام والحساب وغير ذلك؛ مما هو مقرر في السنة، ‏{‏أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا‏}‏، فتكون الآية كلها في أهل الكتاب‏.‏

أو يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏لكن الراسخون في العلم‏}‏ من أهل الكتاب، ‏{‏والمؤمنون‏}‏ بمحمد صلى الله عليه وسلم، من العرب، ‏{‏والمقيمين الصلوة‏}‏ منهم، ‏{‏والمؤتون الزكاة والمؤمنون بالله واليوم الآخر أولئك سنؤتيهم أجرًا عظيمًا‏}‏‏.‏

الإشارة‏:‏ كل من تحقّقت توبته بعد عصيانه، وظهرت يقظته بعد غفلاته، ورسخ في العلم بالله وبصفاته وأسمائه؛ التحق بالسابقين، وحشر مع المقربين، وكان ممن أوتي أجرًا عظيمًا وخيرًا جسيمًا، والحمد الله رب العالمين‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏163- 165‏]‏

‏{‏إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآَتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا ‏(‏163‏)‏ وَرُسُلًا قَدْ قَصَصْنَاهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَرُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا ‏(‏164‏)‏ رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا ‏(‏165‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ من قرأ ‏{‏زبورًا‏}‏ بالفتح، فالمراد به كتاب الزبور، ومن قرأ بالضم، فجمع «زِبر»؛ بكسر الزاي وسكون الباء بمعنى مزبورًا، أي‏:‏ مكتوبًا، أي آتينا داود كتبًا متعددة، و‏{‏رسلاً‏}‏‏:‏ منصوب بمحذوف دل عليه، ‏{‏أوحينا‏}‏، أي‏:‏ أرسلنا رسلاً، أو يفسره ما بعده، أي‏:‏ قصصنا عليك رسلاً، و‏{‏رسلاً مبشرين‏}‏‏:‏ منصوب على البدل، أو على المدح، أو بإضمار أرسلنا، أو على الحال الموطئة لما بعده، كقولك‏:‏ مررت بزيد رجلاً صالحًا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إنا أوحينا إليك‏}‏ يا محمد ‏{‏كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده‏}‏ ولم يكن ينزل عليهم الكتاب جملة واحدة، كما سألك أهل الكتاب تعنيتًا، بل كان ينزل عليهم الوحي شيئًا فشيئًا، فأمرك كأمرهم‏.‏ وقدَّم نوحًا عليه السلام لأنه أبو البشر بعد آدم، وأول نبي من أنبياء الشريعة، وأول نذير على الشرك وأول رسول عُذبت أمته بدعوته، وأطول الأنبياء عُمرًا، وجُعلت معجزته في نفسه، فإنه عمَّر ألف سنة، ولم تنقص له سن، ولم تنقص له قوه، ولم تشب له شعرة، ولم يبالغ أحد في تأخير الدعوة ما بالغ هو عليه السلام، ولم يصبر أحدٌ على أذى قومه ما صبر هو، كان يُشتم ويُضرب حتى يغمى عليه‏.‏

ثم قال تعالى‏:‏ ‏{‏وأوحينا إلى إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط‏}‏ أي‏:‏ الأحفاد، وهم أنبياء بني إسرائيل، ‏{‏وعيسى وأيوب وهارون وسليمان‏}‏، وإنما خصهم بالذكر مع اشتمال النبيين عليهم تعظيمًا لهم، فإن إبراهيم أولُ أُولي العزم منهم، وآخرهم عيسى عليه السلام، والباقون أشراف الأنبياء ومشاهيرهم، ‏{‏وآتينا داود زبورًا‏}‏ أي‏:‏ كتاب الزبور، أو زُبورًا أي‏:‏ صحفًا متعددة، وأرسلنا ‏{‏رسلاً قد قصصناهم عليك من قبل‏}‏ أي‏:‏ من قبل هذه السورة، أو قبل هذا اليوم، ‏{‏ورسلاً لم نقصصهم عليك‏}‏، وفي الحديث‏:‏ «عددُهم ثلاثمائة وأربعة عشر»، ‏{‏وكلم الله موسى تكليمًا‏}‏ حقيقيًا، خُصَّ به من بين الأنبياء، وزاد نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بالرؤية مع الكلام‏.‏

قال الورتجبي‏:‏ بادر موسى عليه السلام من بين الأنبياء لسؤال الرؤية، فأوقفه الحق في مقام سماع كلامه، ومنعه من مشاهدة رؤيته صرفًا، وتحمل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم أثقال السر بمطايا أسراره، ولم يسأل مشاهدة الحق جهرًا بالانبساط، فأوصله الله إلى مقام مشاهدته، ثم أسمعه كلامه بلا واسطة ولا حجاب‏.‏ قال تعالى‏:‏ ‏{‏فَأَوْحَى إِلَىَ عَبْدِهِ مَآ أَوْحَىَ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىَ‏}‏ ‏[‏النجم‏:‏ 10، 11‏]‏‏.‏ ه‏.‏ وقال ابن عطية‏:‏ كلامه تعالى لموسى دون تكييف ولا تحديد، وكما أن الله تعالى موجود لا كالموجودات معلوم لا كالمعلومات، فكذلك كلامه لا كالكلام‏.‏ ه‏.‏

ثم ذكر حكمة إرسال الرسل فقال‏:‏ أرسلنا ‏{‏رسُلاً مبشرين ومنذرين لئلا يكون للناس على الله حجة بعد‏}‏ بعث ‏{‏الرسل‏}‏ فيقولون‏:‏ لولا أرسلت إلينا رسولاً ينبهنا ويعلمنا ما جهلنا من أمر توحيدك والقيام بعبوديتك، فقطع عذر العباد ببعث الرسل، وقامت الحجة عليهم، وفي الحديث عنه عليه الصلاة والسلام‏:‏

«مَا أحدٌ أغيرَ مِنَ الله، ولذلكَ حرَّم الفواحِشَ ما ظَهَرَ مِنهَا وما بَطَنَ، وما أحدٌ أحبَّ إليهِ المدحُ من الله، ولذلكَ مدَحَ نفسَهُ، وما أحَدٌ أحبَّ إليهِ العذرُ مِنَ الله تعالى، ولذلِكَ أرسَلَ الرَّسلِ وأنزَلَ الكُتبَ»‏.‏

‏{‏وكان الله عزيزًا‏}‏ لا يغلب، فلا يجب عليه شيء، ‏{‏حكيمًا‏}‏ فيما دبر من النبوة، وخص كل نبي بنوع من الوحي والإعجاز على ما يليق به في زمانه‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ علماءُ هذه الأمة كأنبياء بني إسرائيل، العارفون منهم كالرسل منهم، قال ابن الفارض رضي الله عنه‏:‏

فَعَالِمُنَا منهم نبي، ومَن دَعَا *** إلى الحقِّ منّا قَامَ بالرسُلِيّه

وعارِفنا في وقتِنا الأحمَديُّ من *** أولي العزمِ منهم آخِذٌ بالعَزِيمَه

فإنهم يشاركونهم في وحي الإلهام، ويحصل لهم المكالمة مع المشاهدة، فيسمعون من الحق كما ينطقون به‏.‏ كما قال الششتري‏:‏

أنَا باللهِ أنطقُ *** ومِنَ الله أسمَع

فتارة يسمعون كلامه بالوسائط، وتارة من غير الوسائط، يعرف هذا أهل الفن من أهل الذوق، وشأن من لم يَبلُغ مقامهم‏:‏ التسليم‏.‏

إن لم تَرَ الهِلاَلَ فَسَلَّم *** لأُناسٍ رَأوه بالأبصَارِ

وفي الورتجبي‏:‏ وإن الله تعالى إذا أراد أن يُسمع كلامه أحدًا من الأنبياء والأولياء يعطيه سمعًا من أسماعه، فيسمع به كلامه، كما حكى عليه الصلاة والسلام عنه تعالى، قال‏:‏ «فإذا أحببته كنت معه‏.‏‏.‏‏.‏»، الحديث‏.‏ أسمعه كلامه، وليس هناك الحروف والأصوات، بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية، الذي هو منزه عن همهمة الأنفاس وخطرات الوسواس، وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء، حتى هناك السامع والمسمع واحد من حيث المحبة، لا من حيث الجمع والتفرقة‏.‏ انتهى كلامه‏.‏

واعلم أن أهل الجمع لا يشهدون إلا متكلمًا واحدًا، قد انتفى من نظرهم التعدد والاثنينية، غير أنهم يفرقون بين كلام القدرة وكلام الحكمة، كلام القدرة يبرز من غير اختبار، بل يكون المتكلم به مأخوذًا عنه، غائبًا عن اختياره، وكلام الحكمة معه ضرب من الاختبار، وقد يسمعون كلام القدرة من الهواتف الغيبية، ومن الجمادات على وجه الكرامة، وكله بحرف وصوت‏.‏ نعم ما يقع من الهواتف القلبية والتجليات الباطنية، قد يكون بلا حرف ولا صوت، وقد تحصل لهم المكالمة بالإشارة بلا صوت ولا حرف، فقوله‏:‏ ‏(‏بل أسمعه بحرف القدرة وصوت الأزلية‏.‏‏.‏‏.‏‏)‏ الخ‏.‏ إن أراد به التجليات الباطنية فمسلَّم، لكن ظاهره أن كلام الحق الذي يُسمعه لأنبيائه وأوليائه محصور في ذلك، وأنه لا يكون إلا بلا حرف ولا صوت‏.‏ وليس كذلك‏.‏

وقوله‏:‏ ‏(‏وليس في ولاية الأزل من رسوم أهل الآجال شيء‏)‏ الخ، معناه‏:‏ لم يبق في ولاية أهل مشاهدة الأزل من رسوم الحوادث شيء‏.‏ قلت‏:‏ لكنهم يثبتونها حكمةً، ويمحونها قدرةً ومشاهدة، ولا يلزم من محوها عدم صدور الكلام منها بالحرف والصوت؛ فإن البشرية لا تطيق سماع كلام الحق بلا واسطة الحكمة، كما هو معلوم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏166‏]‏

‏{‏لَكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَالْمَلَائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَكَفَى بِاللَّهِ شَهِيدًا ‏(‏166‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏لكن‏}‏‏:‏ حرف استدراك، وهو عن مفهوم ما تقدم، وكأنه قال‏:‏ إنهم لا يشهدون بوحينا إليك‏.‏ لكن الله يشهد بذلك‏.‏

يقول الحقّ جلَ جلاله‏:‏ في الرد على اليهود لما قالوا للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ لا نشهد لك بما أوحي إليكم‏.‏ فقال تعالى‏:‏ ‏{‏لكن الله يشهد بما أنزل إليك‏}‏ إن لم يشهدوا به، ‏{‏أنزله بعلمه‏}‏ أي‏:‏ متلبسًا بعلمه الخاص به، وهو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كل بليغ‏.‏ أو متلبسًا بعلمه الذي يحتاج الناس إليه في معاشهم ومعادهم‏.‏ أو بعلمه المتعلق بمن يستأهل نزول الكتب إليه، ‏{‏والملائكة‏}‏ أيضًا يشهدون بذلك‏.‏ وفيه تنبيه على أن الملائكة يودُّون أن يعلم الناس صحة دعوى النبوة، على وجه يستغني عن النظر والتأمل، وهذا النوع من خواص الملك، ولا سبيل للإنسان إلى العلم بأمثال ذلك، سوى التفكر والنظر، فلو أتى هؤلاء بالنظر الصحيح لعرفوا نبوتك، وشهدوا بها كما عرفت الملائكة وشهدوا‏.‏ قاله البيضاوي، وقد يخلق الله العلم في قلب الإنسان من غير تفكر ولا نظر، بل هداية من المالك القدير‏.‏ ‏{‏وكفى بالله شهيدًا‏}‏ لرسوله عن شهادة غيره‏.‏

الإشارة‏:‏ كما شهد الحق تعالى لرسوله بالنبوة والرسالة، شهد لمن كان على قدمه من ورثته الخاصة بالولاية والخصوصية، وهم الأولياء العارفون بالله، وشهادته لهم بما أظهر عليهم من العلوم اللدنية والأسرار الربانية، وبما أتحفهم به من الأخلاق النبوية والمحاسن البهية، وبما أظهر على أيديهم من الكرامات الظاهرة مع الاستقامة الشرعية، لكن لا يدرك هذه الشهادة إلا من سبقت له العناية، وكان له حظ من الولاية‏.‏ «سبحان من لم يجعل الدليل على أوليائه إلا من حيث الدليل عليه‏!‏ ولم يوصل إليه إلا من أراد أن يوصله إليه» وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏167- 169‏]‏

‏{‏إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلَالًا بَعِيدًا ‏(‏167‏)‏ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَظَلَمُوا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقًا ‏(‏168‏)‏ إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا وَكَانَ ذَلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرًا ‏(‏169‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏خالدين‏}‏‏:‏ حال مقدرة‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏إن الذين كفروا‏}‏ بما أنزلت على رسولنا من اليهود أو غيرهم، ‏{‏وصدوا‏}‏ الناس عن طريق الله الموصلة إليه، ‏{‏قد ضلوا ضلالاً بعيدًا‏}‏؛ لأنهم جمعوا بين الضلال والإضلال، ولأن المضل يكون أغرق في الضلال وأبعد عن الانقلاع‏.‏ ‏{‏إنَّ الذين كفروا وظلموا‏}‏ الناس بصدهم عما فيه صلاحهم وخلاصهم، أو ظلموا رسول الله بإنكار نبوته وكتمان صفته، أو ظلموا أنفسهم بالانهماك في الكفر، ‏{‏لم يكن الله ليغفر لهم ولا ليهديهم طريقًا، إلا طريق جهنم خالدين فيها أبدًا‏}‏، فجرى حكمه السابق ووعده الصادق على أن من مات على الكفر مخلد في النار، ‏{‏وكان ذلك على الله يسيرًا‏}‏ لا يصعب عليه ولا يتعاظمه‏.‏

الإشارة‏:‏ إن الذين كفروا بالخصوصية وأنكروا على أهلها، وصدوا الناس عن القصد إليها والدخول في حزبها؛ قد ضلوا عن طريق الوصول ضلالاً بعيدًا، إذ لا وصول إلى الله إلا على يد أولياء الله؛ لأنهم باب الحضرة، فلا بد من الأدب معهم والخضوع لهم‏.‏ إن الذين كفروا بأولياء الله، وظلموا أنفسهم؛ حيث حرموها الوصول، وتركوها في أودية الخواطر تجول، لم يكن الله ليستر مساوئهم ويقدس سرائرهم، ولا ليهديهم طريق المشاهدة ولا كيفية المجاهدة وإنما يمكنهم من طريق التعب والنصب حتى يلقوا الله بقلب سقيم، والعياذ بالله‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏170‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآَمِنُوا خَيْرًا لَكُمْ وَإِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا ‏(‏170‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏فآمنوا خيرًا لكم‏}‏، و‏{‏انتهوا خيرًا لكم‏}‏‏:‏ قال سيبويه‏:‏ هو منصوب بفعل مضمر، تقديره‏:‏ وائتوا خيرًا لكم، وقال الخليل‏:‏ منصوب بآمنوا وبانتهوا على المعنى‏.‏ أي‏:‏ اقصدوا‏.‏ وقال الفراء صفة لمصدر، أي‏:‏ آمنوا إيمانًا خيرًا لكم‏.‏ وقال بعض الكوفيين‏:‏ هو خبر كان المحذوفة، وتقديره‏:‏ ليكن الإيمان خيرًا لكم‏.‏

قلت‏:‏ وهو أظهر من جهة المعنى، وإن منعه البصريون، قالوا‏:‏ لأنَّ ‏{‏كان‏}‏ لا تحذف مع اسمها إلا في مواضع مخصوصة، قال ابن مالك‏:‏

ويَحذِفُونَها ويُبقُون الخبَر *** وبَعدَ إن، ولو، كثِيرًا ذا اشتَهر

ولعل هذا الموضع أتى على غير المشهور تنبيهًا على الجواز‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس قد جاءكم الرسول بالحق من ربكم‏}‏ وهو محمد صلى الله عليه وسلم، ‏{‏فأمنوا به‏}‏ يكن ‏{‏خيرًا لكم‏}‏ مما أنتم فيه من الضلال، ‏{‏وإن تكفروا فإن لله ما في السماوات والأرض‏}‏ وما تركبتا منه، ملكًا وخلقًا وعبيدًا، فهو غني عنكم، لا يتضرر بكفركم، كما لا ينتفع بإيمانكم، ‏{‏وكان الله عليمًا‏}‏ بأحوالكم، ‏{‏حكيمًا‏}‏ فيما دبر لكم‏.‏

الإشارة‏:‏ الذي جاء به الرسول صلى الله عليه وسلم هو إتقان مقام الإسلام، وتصحيح مقام الإيمان، الذي من أركانه‏:‏ الإيمان بالقدر خيره وشره، حلوه ومره، وتحقيق مقام الإحسان الذي هو مقام الشهود والعيان، لا يكمل هذا إلا بصحبة أهل العرفان، الذين صححوا مقام الفناء، وخرجوا إلى البقاء خاضوا بحار التوحيد، وانفردوا بأسرار التفريد، ورسخ فيه مقام الرضى والتسليم، فتلقوا المقادير كلها بقلب سليم، فمن لم يصحبهم ويتأدب بآدابهم بقي إيمانه ناقصًا، وحقه العذاب، فكأن الحق تعالى يقول على لسان الإشارة‏:‏ قد جاءكم وليي، وهو خليفة رسولي، فآمنوا بخصوصيته، وأذعنوا لأمره وتربيته، يكن خيرًا لكم مما أنتم فيه من المساوىء والأمراض، لئلا تلقوني بقلب سقيم، وبالله التوفيق‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏171‏]‏

‏{‏يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ فَآَمِنُوا بِاللَّهِ وَرُسُلِهِ وَلَا تَقُولُوا ثَلَاثَةٌ انْتَهُوا خَيْرًا لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلَهٌ وَاحِدٌ سُبْحَانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَكَفَى بِاللَّهِ وَكِيلًا ‏(‏171‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ أصل الغلو‏:‏ مجاوزة الحد في كل شيء، يقال‏:‏ غلا بالجارية لحمها وعظمها، إذا أسرعت إلى الشباب فجاوزت لداتها؛ أي‏:‏ أقرانها، تغلو غلوًا‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في عتاب النصارى بدليل ما بعده‏:‏ ‏{‏يا أهل الكتاب‏}‏ الإنجيل ‏{‏لا تغلوا في دينكم‏}‏ فتجاوزوا الحد فيه باعتقادكم في عيسى أنه الله، أو ابن الله، قصدوا تعظيمه فغلوا وأفرطوا، ‏{‏ولا تقولوا على الله إلا الحق‏}‏، وهو تنزيه عن الصاحبه والولد‏.‏

ثم بيَّن الحق فيه فقال‏:‏ ‏{‏إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله‏}‏، لا كما قالت اليهود‏:‏ ليس برسول، ولا كما قالت النصارى‏:‏ إنه الله، أو ابن الله، وإنما هو عبد الله ورسوله، ‏{‏وكلمته ألقاها إلى مريم‏}‏ أي‏:‏ أوصلها إليها وحصلها فيها، وهي كلمة‏:‏ كن‏.‏ فَتَكَوّنَ بها في رحم أمه فسمى بها، ‏{‏وروح منه‏}‏ وهو نفخ جبريل في جيبها فحملت بذلك النفخ، وسمي النفخ روحًا؛ لأنه ريح يخرج عن الروح، فكانت روحه صادرة من روح القدس، كما قال في آدم‏:‏ ‏{‏وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِى‏}‏ ‏[‏الحِجر‏:‏ 29‏]‏، وقد قال‏:‏ ‏{‏إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِندَ اللهِ كَمَثَلِ ءَادَمَ‏}‏ ‏[‏آل عِمرَان‏:‏ 59‏]‏، فنفخ جبريل في الحقيقة لما كان بأمر الله صار هو نفخ الحق؛ لأن الواسطة محذوفة عند المحققين، فلذلك أضاف روحه إليه كروح آدم عليه السلام‏.‏

‏{‏فأمنوا بالله ورسوله‏}‏ أي‏:‏ وحدوا الله في إلوهيته، ‏{‏ولا تقولوا ثلاثة‏}‏ أي‏:‏ الآلهة ثلاثة‏:‏ الله، والمسيح، ومريم، ‏{‏انتهوا‏}‏ عن التثليث يكن ‏{‏خيرًا لكم إنما الله إله واحد‏}‏ في ذاته وصفاته وأفعاله، ‏{‏سبحانه‏}‏ أي‏:‏ تنزيهًا له أن يكون له ولد، لأنه لا يجانس ولا يتطرقه الفناء، ‏{‏له ما في السماوات وما في الأرض‏}‏، ملكًا وخلقًا وعبيدًا، والعبودية تنافي البُنوة، ‏{‏وكفى بالله وكيلاً‏}‏ فلا يحتاج إلى ولد؛ لأن الولد يكون وكيلاً عن أبيه وخليفته، والله تعالى قائم بحفظ الأشياء كافٍ لها، مستغن عمن يعينه أو يخلفه لوجوب بقائه وغناه‏.‏

واعلم أن النصارى انقسموا على أربع فرق‏:‏ نسطورية، ويعقوبية، وملكانية، ومرقوسية، ومنهم نصارى نجران، فالنسطورية، قالوا في عيسى هو ابن الله، واليعقوبية والملكانية، قالوا هو الله، والمرقوسية قالوا‏:‏ هو ثالث ثلاثة، وكلهم ضالون‏.‏

الإشارة‏:‏ الغلو كله مذموم، وخير الأمور أوساطها، وقد قال عليه الصلاة والسلام‏:‏ «لا تُطرُونِي كما أطرَت النَّصَارَى عيسى ابنَ مَريم، ولكن قولوا‏:‏ عَبدُ اللهِ وَرَسُوله»، ويرخص للفقير أن يتغالى في مدح شيخه، ما لم يخرجه عن طوره، أو ينتقص غيره بمدحه، وفي الإشارة حيث على حفظ مقام التوحيد، وتنزيهه تعالى عن الأضداد والأنداد‏.‏ وفي ذلك يقول الشاعر‏:‏

أرَبٌّ وعَبدٌ ونَفى ضِدٍ *** قلتُ لَهُ‏:‏ لَيسَ ذَاكَ عِندِي

فَقَالَ ما عِندَكُم‏؟‏ فقُلنَا‏:‏ *** وُجُودُ فَقدٍ وفَقدُ وُجد

فإثبات العبودية مستقلة تضاد الربوبية، ولذلك أنكرها الشاعر، أي‏:‏ أثبت ربًا وعبدًا، وأنت تقول بنفي الضد عنه وفي الحِكَم‏:‏ «الأكوان ثابتة بإثباته ممحوة بأحدية ذاته»‏.‏

ولما قالت نصارى نجران للنبي صلى الله عليه وسلم‏:‏ إنك تعيب صاحبنا‏؟‏ فقال عليه الصلاة والسلام «ومن صاحبكم‏؟‏» قالوا‏:‏ عيسى‏.‏ قال «وأي شيء أقول‏؟‏» قالوا‏:‏ تقول إنه عبد الله‏.‏ قال لهم عليه الصلاة والسلام‏:‏ «ليس بعارٍ أن يكون عيسى عبدًا»

تفسير الآيات رقم ‏[‏172- 173‏]‏

‏{‏لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْدًا لِلَّهِ وَلَا الْمَلَائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَمَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبَادَتِهِ وَيَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعًا ‏(‏172‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَيَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَأَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَاسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا وَلَا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا ‏(‏173‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ أصل الاستنكاف‏:‏ التنحية، من قولهم‏:‏ نكفت الدمع؛ إذا نحيته بإصبعك كي لا يُرى أثره عليك، ثم أُطلق على الأنفة، والاستكبار دون الاستنكاف، ولذا عطف عليه؛ لأن الاستنكاف، لا يستعمل إلا حيث لا استحقاق، بخلاف الاستكبار فإنه يكون باستحقاق‏.‏ قاله البيضاوي‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ في الرد على النصارى‏:‏ ‏{‏لن يستنكف‏}‏ أي‏:‏ لن يأنف ‏{‏المسيح أن يكون عبدًا لله‏}‏؛ فإن عبوديته لله شرف يتباهى بها، وإنما المذلة والاستنكاف في عبوديته لغيره، ‏{‏ولا الملائكة المقربون‏}‏ لا يستنكفون أيضًا أن يكونوا عبيدًا لله، بل ما كانوا مكرمين إلا بعبوديتهم لله، واحتج بالآية مَن فَضَّل الملائكة على الأنبياء، لأن المعطوف يقتضي أن يكون أرفع درجة من المعطوف عليه، حتى يكون عدم استنكاف الملائكة كالدليل على عدم استنكاف المسيح‏.‏

والجواب‏:‏ أن عطف الملائكة إنما أريد به التكثير والمبالغة، كقولهم‏:‏ أصبح الأمير اليوم لا يخالفه رئيس ولا مرؤوس، والرئيس أفضل من المرؤوس، والتحقيق في المسألة؛ أن الأنبياء والرسل أفضل من خواص الملائكة كالمقربين، وخواص الملائكة؛ وهم المقربون أفضل من خواص البشر كالأولياء، وخواص البشر أفضل من عوام الملائكة، وعوام الملائكة أفضل من عوام البشر، ولذلك قيل‏:‏ من غلب عقله على هواه كان كالملائكة أو أفضل، ومن غلب هواه على عقله، كان كالبهائم أو أضل‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

ثم ذكر وعيد من استنكف عن عبوديته تعالى فقال‏:‏ ‏{‏ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر فسيحشرهم إليه جميعًا‏}‏ فيجازيهم؛ ‏{‏فأما الذين آمنوا وعلموا الصالحات‏}‏ ولم يستنكفوا عن عبادته ‏{‏فيوفّيهم أجورهم ويزيدهم من فضله‏}‏ ما لا عين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، ‏{‏وأما الذين استنكفوا‏}‏ عن عبوديته ‏{‏واستكبروا‏}‏ عن عبادته ‏{‏فيعذبهم عذابًا أليمًا‏}‏ أي‏:‏ مُوجعًا، وهو النار وقال القشيري‏:‏ العذاب الأليم‏:‏ هو ألا يصلوا إليه أبدًا بعد ما عرفوا جلاله، إذ صارت معرفتهم ضرورية أي قهرية فحسراتهم حينئٍذ على ما فاتهم أشدُّ عقوبة لهم‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏ولا يجدون لهم من دون الله وليًّا ولا نصيرًا‏}‏‏.‏

فإن قلت‏:‏ هذا التفصيل أعم من المفصل، لأن الحشر إنما ذكر للمتكبرين والتفصيل أعم، فالجواب‏:‏ أن عموم المفصل يفهم من قوة الكلام، فكأنه قال‏:‏ فسيحشرهم للمجازاة يوم يجازي عباده جميعًا، ‏{‏فأما الذين آمنوا‏.‏‏.‏‏.‏‏}‏ الخ، نظيره‏:‏ قولك‏:‏ جمع الأمير كافة مملكته، فأما العلماء فأكرمهم، وأما الطغاة فقطعهم‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

الإشارة‏:‏ العبودية أشرف الحالات وأرفع المقامات، بها شرف من شرف، وارتفع من ارتفع، عند الله، وما خاطب الله أحباءه إلا بالعبودية، فقال تعالى‏:‏ ‏{‏سُبْحَانَ الَّذِى أَسْرَى بِعَبْدِهِ لَيْلاً‏}‏ ‏[‏الإسرًاء‏:‏ 1‏]‏، وقال‏:‏ ‏{‏وَاذْكُرْ عَبدَنَآ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ‏}‏ ‏[‏صَ‏:‏ 45‏]‏، ‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا دَاوُدَ‏}‏ ‏[‏صَ‏:‏ 17‏]‏، ‏{‏وَاذْكُرْ عَبْدَنَا أَيْوُّبَ‏}‏ ‏[‏صَ‏:‏ 41‏]‏، ‏{‏نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ‏}‏ ‏[‏صَ‏:‏ 30‏]‏‏.‏‏.‏‏.‏ إلى غير ذلك‏.‏

وأوصاف العبودية أربعة‏:‏ الذل، والفقر، والضعف، والجهل‏.‏ ومقابلها من أوصاف الربوبية أربعة‏:‏ العز، والغنى والقوة والعلم، فبقدر ما يُظهر العبد من أوصاف العبودية يمده الحق من أوصاف الربوبية، فبقدر ما يظهر العبد من الذل يمده من العز، وبقدر ما يظهر من الفقر يمده بالغنى، وبقدر ما يظهر من الضعف يمده من القوة، وبقدر ما يظهر من الجهل يمده من العلم، تحقق بوصفك يمدك بوصفه، ولا يتحقق ظهور هذه الأوصاف إلا بين عباده لتمتحق بذلك أوصاف النفس‏.‏

تفسير الآيات رقم ‏[‏174- 175‏]‏

‏{‏يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُمْ بُرْهَانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُبِينًا ‏(‏174‏)‏ فَأَمَّا الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا ‏(‏175‏)‏‏}‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم‏}‏ وهو الرسول عليه الصلاة والسلام وما اقترن به من المعجزات الواضحات، ‏{‏وأنزلنا إليكم‏}‏ على لسانه ‏{‏نورًا مبينًا‏}‏ وهو القرآن‏:‏ أو جاءكم برهان من ربكم‏:‏ المعجزات الطاهرة، ‏{‏وأنزلنا إليكم نورًا مبينًا‏}‏‏:‏ القرآن العظيم، أي‏:‏ جاءكم دليل العقل وشواهد النقل، فلم يبق لكم عذر ولا علة‏.‏

‏{‏فأما الذين آمنوا بالله‏}‏ أي‏:‏ وحدوه في ربوبيته، ‏{‏واعتصموا‏}‏ أي‏:‏ تمسكوا بدينه أو بكتابه، ‏{‏فيسدخلهم في رحمة منه‏}‏ وهي الجنة، ‏{‏وفضلٍ‏}‏‏:‏ النظر لوجهه الكريم، قال البيضاوي‏:‏ ‏{‏في رحمة‏}‏ أي‏:‏ ثواب قدّره بإزاءِ وإيمانه وعمله، رحمة منه، لا قضاء لحق واجب، وفضل إحسان زائد عليهما‏.‏ ه‏.‏ وقال القشيري‏:‏ سيحفظ عليهم إيمانهم في المآل عند التوفي، كما أكرمهم به وبالعرفان في الحال‏.‏ ه‏.‏ ‏{‏ويهديهم إليه‏}‏ أي‏:‏ إلى الوصول إليه، ‏{‏صراطًا مستقيمًا‏}‏ أي‏:‏ يُبيّن لهما الوصول إليه، وهو طريق السير الذي لا عوج فيه؛ العلم والعمل والحال، وقال البيضاوي‏:‏ هو الإسلام والطاعة في الدنيا، وطريق الجنة في الآخرة‏.‏ ه‏.‏

الإشارة‏:‏ قد جاءكم من يعرفكم بالله، ويدلكم على الله، وهم أولياء الله، ببرهان واضح لا يخفى إلا على من كان خفاشيًا، وأنزلنا إليكم من سر قُدسنا، وبحر جبروتنا نورًا مبينًا، تُشاهدون فيه أسرار الذات وأنوار الصفات، وهو ما ظهر من التجليات من القبضة الأولية المحمدية، ‏{‏فأما الذين آمنوا بالله واعتصموا به‏}‏ في حال سيرهم إليه ‏{‏فسيدخلهم في رحمة منه‏}‏ وهي حضرة القدس، ‏{‏وفضل‏}‏ وهو الترقي في أسرار المعارف إلى ما لا نهاية له، ويهديهم إلى الوصول إليه، وهو شهوده في ذلك النور، طريقًا توصل إليه في أقرب زمان‏.‏ ولعل الآية فيها تقديم وتأخير، أي‏:‏ فسيهديهم إليه طريقًا مستقيمًا يسيرون فيه، حتى يصلوا إليه، ثم يدخلهم في رحمة حضرته، وفضل زيادة معرفته‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏

تفسير الآية رقم ‏[‏176‏]‏

‏{‏يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلَالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَلَهُ أُخْتٌ فَلَهَا نِصْفُ مَا تَرَكَ وَهُوَ يَرِثُهَا إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهَا وَلَدٌ فَإِنْ كَانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثَانِ مِمَّا تَرَكَ وَإِنْ كَانُوا إِخْوَةً رِجَالًا وَنِسَاءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ ‏(‏176‏)‏‏}‏

قلت‏:‏ ‏{‏في الكلالة‏}‏، يتعلق بيفتيكم، ويستفتونك، فيكون من باب التنازع، وأعمل الثاني على اختيار البصريين، وعمل الأول في الضمير المجرور حذف، أي‏:‏ يستفتونك فيها، أو عمل الأول وحذف ضمير الثاني، أو يكون يستفتونك مقطوعًا فيوقف عليه، أو حُذف متعلقة لدلالة الجواب عليه، أي‏:‏ يستفتونك في الكلالة، وهو أظهر، وتقدم تفسير الكلالة، ‏{‏إن امرؤ هلك‏}‏‏:‏ ارتفع بفعل مضمر عند البصريين، من باب الاشتغال في المرفوع‏.‏

يقول الحقّ جلّ جلاله‏:‏ ‏{‏يستفتونك‏}‏ في الكلالة، والمستفتِي هو جابر بن عبد الله، كان مريضًا فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال‏:‏ يا رسول الله إني كلالة، فكيف أصنع في مالي‏؟‏ فنزلت، وهي آخر ما نزل من الأحكام‏.‏ ‏{‏قل الله يفتيكم في الكلالة‏}‏، ثم بيَّن الفتوى فيها فقال‏:‏ ‏{‏إن امرؤ هلك ليس له ولد‏}‏ ولا والد، بل انقطع نسبه من الجهتين، ‏{‏وله أخت‏}‏ شقيقة أو لأب ‏{‏فلها نصف ما ترك‏}‏ والباقي للعصبة، ولا ميراث لها مع الأب أو الابن، ‏{‏وهو يرثها‏}‏ إن ماتت ولم يكن لها ولد ولا والد‏.‏

فإن استقل فله المال، وإن كان معه ذو سهم أخذ الباقي، ‏{‏فإن كانتا اثنتين‏}‏ فأكثر شقائق ‏{‏فلهما الثلثان مما ترك‏}‏، وإن كانت شقيقة مع الأب أخذت الشقيقة النصف، والتي لأب السدس تكملة الثلثين، وإن كانت لأب مع الشقيقتين فلا شيء لها، ‏{‏وإن كانوا إخوة رجالاً ونساءً‏}‏ شقائق، مات أخوهم، ‏{‏فللذكر مثل حظ الأنثيين‏}‏، ولا شيء للأخوة لأب من الشقائق‏.‏ ‏{‏يُبين الله لكم‏}‏ الحق، كراهية ‏{‏أن تضلوا والله بكل شيء عليم‏}‏؛ فهو عالم بمصالح العباد في المحيا والممات‏.‏ اللهم أحينا حياة طيبة وأمتنا موتة حسنة، في عافية وستر جميل، يا أرحم الراحمين، يا رب العالمين‏.‏

الإشارة‏:‏ الكلالة من الأولياء، هو الذي مات ولم يخلف ولدًا يرث حاله، فإن لم تكن له تلاميذ، فإن كان له أخ يقارب حاله، ورثه وقد يرث سره أخته في النسبة، لكن لا تستوجب ذلك كله؛ لحكمة الله تعالى‏.‏ يشير إليه قوله تعالى‏:‏ ‏{‏فلها نصف ما ترك‏}‏، وإن ترك إخوة في الشيخ اقتسموا سره كله، كلٌ على قدر صِدقه، والنساء الصادقات شقائق الرجال في نيل أسرار الولاية‏.‏ وقد تقدم أول السورة أن مدد الشيخ كنهر أو كبحر يصب في القواديس، فإذا انسدت قادوس انتقل ماؤها إلى الأُخرى‏.‏ والله تعالى أعلم‏.‏